سورة البقرة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنهم لا يؤمنون أخبر في هذه الآية بالسبب الذي لأجله لم يؤمنوا، وهو الختم، والكلام هاهنا يقع في مسائل:
المسألة الأولى: الختم والكتم أخوان؛ لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية، لئلا يتوصل إليه أو يطلع عليه، والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة.
المسألة الثانية: اختلف الناس في هذا الختم، أما القائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر، ثم لهم قولان، منهم من قال: الختم هو خلق الكفر في قلوب الكفار، ومنهم من قال هو خلق الداعية التي إذا انضمت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سبباً موجباً لوقوع الكفر، وتقريره أن القادر على الكفر إما أن يكون قادراً على تركه أو لا يكون، فإن لم يقدر على تركه كانت القدرة على الكفر موجبة للكفر، فخلق القدرة على الكفر يقتضي خلق الكفر، وإن قدر على الترك كانت نسبة تلك القدرة إلى فعل الكفر وإلى تركه على سواء، فإما أن يكون صيرورتها مصدراً للفعل بدلاً عن الترك يتوقف على انضمام مرجح إليها أولا يتوقف، فإن لم يتوقف فقد وقع الممكن لا عن مرجح، وتجويزه يقتضي القدح في الاستدلال بالممكن على المؤثر، وذلك يقتضي نفي الصانع وهو محال، وأما إن توقف على المرجح فذلك المرجح إما أن يكون من فعل الله أو من فعل العبد أولا من فعل الله ولا من فعل العبد، لا جائز أن يكون من فعل العبد وإلا لزم التسلسل، ولا جائز أن يكون لا بفعل الله ولا بفعل العبد؛ لأنه يلزم حدوث شيء لا لمؤثر، وذلك يبطل القول بالصانع. فثبت أن كون قدرة العبد مصدراً للمقدور المعين يتوقف على أن ينضم إليها مرجح هو من فعل الله تعالى. فنقول: إذا انضم ذلك المرجح إلى تلك القدرة فإما أن يصير تأثير القدرة في ذلك الأثر واجباً أو جائزاً أو ممتنعاً، والثاني والثالث، باطل فتعين الأول، وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون جائزاً لأنه لو كان جائزاً لكان يصح في العقل أن يحصل مجموع القدرة مع ذلك المرجح تارة مع ذلك الأثر، وأخرى منفكاً عنه، فلنفرض وقوع ذلك؛ لأن كل ما كان جائزاً لا يلزم من فرض وقوعه محال، فذاك المجموع تارة يترتب عليه الأثر، وأخرى لا يترتب عليه الأثر، فاختصاص أحد الوقتين يترتب ذلك الأثر عليه إما أن يتوقف على انضمام قرينة إليه، أو لا يتوقف، فإن توقف كان المؤثر هو ذلك المجموع مع هذه القرينة الزائدة، لا ذلك المجموع، وكنا قد فرضنا أن ذلك المجموع هو المستقل خلف هذا، وأيضاً فيعود التقسيم في هذا المجموع الثاني، فإن توقف على قيد آخر لزم التسلسل وهو محال، وإن لم يتوقف فحينئذٍ حصل ذلك المجموع تارة بحيث يكون مصدراً للأثر، وأخرى بحيث لا يكون مصدراً له مع أنه لم يتميز أحد الوقتين عن الآخر بأمر ما ألبتة، فيكون هذا قولاً بترجح الممكن لا عن مرجح وهو محال. فثبت أن عند حصول ذلك المرجح يستحيل أن يكون صدور ذلك الأثر جائزاً، وأما أنه لا يكون ممتنعاً فظاهر، وإلا لكان مرجح الوجود مرجحاً للعدم وهو محال، وإذا بطل القسمان ثبت أن عند حصول مرجح الوجود يكون الأثر واجب الوجود عن المجموع الحاصل من القدرة، ومن ذلك المرجح، وإذا ثبت هذا كان القول بالجبر لازماً: لأن قبل حصول ذلك المرجح كان صدور الفعل ممتنعاً وبعد حصوله يكون واجباً، وإذ عرفت هذا كان خلق الداعية الموجبة للكفر في القلب ختماً على القلب ومنعاً له عن قبول الإيمان؛ فإنه سبحانه لما حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون ذكر عقيبه ما يجري مجرى السبب الموجب له، لأن العلم بالعلة يفيد العلم بالمعلول، والعلم بالمعلول لا يكمل إلا إذا استفيد من العلم بالعلة، فهذا قول من أضاف جميع المحدثات إلى الله تعالى.
وأما المعتزلة فقد قالوا: إنه لا يجوز إجراء هذه الآية على المنع من الإيمان واحتجوا فيه بالوجوه التي حكيناها عنهم في الآية الأولى وزادوا هاهنا بأن الله تعالى قد كذب الكفار الذين قالوا إن على قلوبهم كنان وغطاء يمنعهم عن الإيمان.
{وَقالوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 155] وقال: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 4، 5] وهذا كله عيب وذم من الله تعالى فيما ادعوا أنهم ممنوعون عن الإيمان ثم قالوا: بل لابد من حمل الختم والغشاوة على أمور أخر ثم ذكروا فيه وجوهاً: أحدها: أن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بدلائل الله تعالى حتى صار ذلك كالألف والطبيعة لهم أشبه حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه وكذلك هذا في عيونهم حتى كأنها مسدودة لا تبصر شيئاً وكأن بآذانهم وقراً حتى لا يخلص إليها الذكر، وإنما أضيف ذلك إلى الله تعالى لأن هذه الصفة في تمكنها وقوة ثباتها كالشيء الخلقي؛ ولهذا قال تعالى: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ} [النساء: 155] {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77].
وثانيها: أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب.
وثالثها: أنهم لما أعرضوا عن التدبر ولم يصغوا إلى الذكر وكان ذلك عند إيراد الله تعالى عليهم الدلائل أضيف ما فعلوا إلى الله تعالى؛ لأن حدوثه إنما اتفق عند إيراده تعالى دلائله عليهم كقوله تعالى في سورة براءة: {زَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] أي ازدادوا بها كفراً إلى كفرهم.
ورابعها: أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى تحصيل الإيمان لهم إلا بالقسر والإلجاء إلا أن الله تعالى ما أقرهم عليه لئلا يبطل التكليف فعبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم إشعاراً بأنهم الذين انتهوا في الكفر إلى حيث لا يتناهون عنه إلا بالقسر وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغي.
وخامسها: أن يكون ذلك حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكماً به من قولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] ونظيره في الحكاية والتهكم قوله: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} [البينة: 1].
وسادسها: الختم على قلوب الكفار من الله تعالى هو الشهادة منه عليهم بأنهم لا يؤمنون، وعلى قلوبهم بأنها لا تعي الذكر ولا تقبل الحق، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إلى الحق كما يقول الرجل لصاحبه أريد أن تختم على ما يقوله فلان، أي تصدقه وتشهد بأنه حق، فأخبر الله تعالى في الآية الأولى بأنهم لا يؤمنون، وأخبر في هذه الآية بأنه قد شهد بذلك وحفظه عليهم.
وسابعها: قال بعضهم: هذه الآية إنما جاءت في قوم مخصوصين من الكفار فعل الله تعالى بهم هذا الختم والطبع في الدنيا عقاباً لهم في العاجل، كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا فقال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين} [البقرة: 65] وقال: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} [المائدة: 26] ونحو هذا من العقوبات المعجلة لما علم الله تعالى فيها من العبرة لعبادة والصلاح لهم، فيكون هذا مثل ما فعل بهؤلاء من الختم والطبع، إلا أنهم إذا صاروا بذلك إلى أن لا يفهموا سقط عنهم التكليف كسقوطه عمن مسخ، وقد أسقط الله التكليف عمن يعقل بعض العقل كمن قارب البلوغ، ولسنا ننكر أن يخلق الله في قلوب الكافرين مانعاً يمنعهم عن الفهم والاعتبار إذا علم أن ذلك أصلح لهم كما قد يذهب بعقولهم ويعمي أبصارهم ولكن لا يكونون في هذا الحال مكلفين.
وثامنها: يجوز أن يجعل الله على قلوبهم الختم وعلى أبصارهم الغشاوة من غير أن يكون ذلك حائلاً بينهم وبين الإيمان بل يكون ذلك كالبلادة التي يجدها الإنسان في قلبه والقذى في عينيه والطنين في أذنه، فيفعل الله كل ذلك بهم ليضيق صدورهم ويورثهم الكرب والغم فيكون ذلك عقوبة مانعة من الإيمان كما قد فعل ببني إسرائيل فتاهوا ثم يكون هذا الفعل في بعض الكفار ويكون ذلك آية للنبي صلى الله عليه وسلم ودلالة له كالرجز الذي أنزل على قوم فرعون حتى استغاثوا منه، وهذا كله مقيد بما يعلم الله تعالى أنه أصلح للعباد.
وتاسعها: يجوز أن يفعل هذا الختم بهم في الآخرة كما قد أخبر أنه يعميهم قال: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّا} [الإسراء: 97] وقال: {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} [طه: 102] وقال: {اليوم نَخْتِمُ على أفواههم} [ياس: 65] وقال: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 100].
وعاشرها: ما حكوه عن الحسن البصري وهو اختيار أبي على الجبائي والقاضي أن المراد بذلك علامة وسمة يجعلها في قلب الكفار وسمعهم فتستدل الملائكة بذلك على أنهم كفار، وعلى أنهم لا يؤمنون أبداً فلا يبعد أن يكون في قلوب المؤمنين علامة تعرف الملائكة بها كونهم مؤمنين عند الله كما قال: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22] وحينئذٍ الملائكة يحبونه ويستغفرون له، ويكون لقلوب الكفار علامة تعرف الملائكة بها كونهم ملعونين عند الله فيبغضونه ويلعنونه، والفائدة في تلك العلامة إما مصلحة عائدة إلى الملائكة؛ لأنهم متى علموا بتلك العلامة كونه كافراً ملعوناً عند الله تعالى صار ذلك منفراً لهم عن الكفر أو إلى المكلف، فإنه إذا علم أنه متى آمن فقد أحبه أهل السموات صار ذلك مرغباً له في الإيمان وإذا علم أنه متى أقدم على الكفر عرف الملائكة منه ذلك فيبغضونه ويلعنونه صار ذلك زاجراً له عن الكفر.
قالوا: والختم بهذا المعنى لا يمنع، لأنا نتمكن بعد ختم الكتاب أن نفكه ونقرأه، ولأن الختم هو بمنزلة أن يكتب على جبين الكافر أنه كافر، فإذا لم يمنع ذلك من الإيمان فكذا هذا الكافر يمكنه أن يزيل تلك السمة عن قلبه بأن يأتي بالإيمان ويترك الكفر.
قالوا: وإنما خص القلب والسمع بذلك؛ لأن الأدلة السمعية لا تستفاد إلا من جهة السمع، والأدلة العقلية لا تستفاد إلا من جانب القلب، ولهذا خصهما بالذكر.
فإن قيل: فيتحملون الغشاوة في البصر أيضاً على معنى العلامة؟ قلنا لا، لأنا إنما حملنا ما تقدم على السمة والعلامة، لأن حقيقة اللغة تقتضي ذلك، ولا مانع منه فوجب إثباته.
أما الغشاوة فحقيقتها الغطاء المانع من الإبصار ومعلوم من حال الكفار خلاف ذلك فلابد من حمله على المجاز، وهو تشبيه حالهم بحال من لا ينتفع ببصره في باب الهداية. فهذا مجموع أقوال الناس في هذا الموضع.
المسألة الثالثة: الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الختم هي: الطبع، والكنان، والرين على القلب، والوقر في الآذان، والغشاوة في البصر ثم الآيات الواردة في ذلك مختلفة فالقسم الأول: وردت دلالة على حصول هذه الأشياء قال: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ} [المطففين: 14] {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً} [الأنعام: 25] {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 87] {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون} [فصلت: 4] {لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً} [ياس: 70] {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء} [النمل: 80] {أموات غَيْرُ أَحْيَاء} [النحل: 21] {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} [البقرة: 10] والقسم الثاني: وردت دلالة على أنه لا مانع البتة {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ} [الأسراء: 94] {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر} [الكهف: 29] {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28] {لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل} [آل عمران: 71] والقرآن مملوء من هذين القسمين، وصار كل قسم منهما متمسكاً لطائفة، فصارت الدلائل السمعية لكونها من الطرفين واقعة في حيز التعارض.
أما الدلائل العقلية فهي التي سبقت الإشارة إليها، وبالجملة فهذه المسألة من أعظم المسائل الإسلامية وأكثرها شعباً وأشدها شغباً، ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال لا، لأنهم نزهوه، فسئل عن أهل السنّة فقال لا، لأنهم عظموه، والمعنى أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله وعلو كبريائه، إلا أن أهل السنّة وقع نظرهم على العظمة فقالوا: ينبغي أن يكون هو الموجد ولا موجد سواه، والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة فقالوا لا يليق بجلال حضرته هذه القبائح، وأقول: هاهنا سر آخر، وهو أن إثبات الإله يلجئ إلى القول بالجبر، لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح، وهو نفي الصانع، ولو توقفت لزم الجبر. وإثبات الرسول يلجئ إلى القول بالقدرة. بل هاهنا سر آخر هو فوق الكل، وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح، وهذا يقتضي الجبر، ونجد أيضاً تفرقة بديهية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية وجزماً بديهياً بحسن المدح وقبح الذم والأمر والنهي، وذلك يقتضي مذهب المعتزلة، فكأن هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب العلوم الضرورية، وبحسب العلوم النظرية، وبحسب تعظيم الله تعالى نظراً إلى قدرته وحكمته، وبحسب التوحيد والتنزيه وبحسب الدلائل السمعية، فلهذه المآخذ التي شرحناها والأسرار التي كشفنا عن حقائقها صعبت المسألة وغمضت وعظمت، فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق وأن يختم عاقبتنا بالخير آمين رب العالمين.
المسألة الرابعة: قال صاحب الكشاف: اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم، وفي حكم التغشية، إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم، لقوله تعالى: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة} [الجاثية: 23] ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم.
المسألةالخامسة: الفائدة في تكرير الجار في قوله: {وعلى سَمْعِهِمْ} أنها لما أعيدت للأسماع كان أدل على شدة الختم في الموضعين.
المسألة السادسة: إنما جمع القلوب والأبصار ووحد السمع لوجوه:
أحدها: أنه وحد السمع، لأن لكل واحد منهم سمعاً واحداً، كما يقال: أتاني برأس الكبشين، يعني رأس كل واحد منهما، كما وحد البطن في قوله: كلوا في بعض بطنكمو تعيشوا يفعلون ذلك إذا أمنوا اللبس، فإذا لم يؤمن كقولك: فرشهم وثوبهم وأنت تريد الجمع رفضوه.
الثاني: أن السمع مصدر في أصله، والمصادر لا تجمع يقال: رجلان صوم، ورجال صوم، فروعي الأصل، يدل على ذلك جمع الأذن في قوله: {وَفِى ءاذانِنَا وَقْر} [فصلت: 5] الثالث: أن نقدر مضافاً محذوفاً أي وعلى حواس سمعهم.
الرابع قال سيبويه: إنه وحد لفظ السمع إلا أنه ذكر ما قبلة وما بعده بلفظ الجمع، وذلك يدل على أن المراد منه الجمع أيضاً، قال تعالى: {يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال} [المعارج: 37] قال الراعي:
بها جيف الحيدى فأما عظامها *** فبيض وأما جلدها فصليب
وإنما أراد جلودها، وقرأ ابن أبي عبلة (وعلى أسماعهم).
المسألة السابعة: من الناس من قال: السمع أفضل من البصر، لأن الله تعالى حيث ذكرهما قدم السمع على البصر، والتقديم دليل على التفضيل، ولأن السمع شرط النبوة بخلاف البصر، ولذلك ما بعث الله رسولاً أصم، وقد كان فيهم من كان مبتلى بالعمى، ولأن بالسمع تصل نتائج عقول البعض إلى البعض، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف، والبصر لا يوقفك إلا على المحسوسات، ولأن السمع متصرف في الجهات الست بخلاف البصر، ولأن السمع متى بطل بطل النطق، والبصر إذا بطل لم يبطل النطق.
ومنهم من قدم البصر، لأن آلة القوة الباصرة أشرف، ولأن متعلق القوة الباصرة هو النور، ومتعلق القوة السامعة الريح.
المسألة الثامنة: قوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} يدل على أن محل العلم هو القلب. واستقصينا بيانه في قوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193] في سورة الشعراء.
المسألة التاسعة: قال صاحب الكشاف: البصر نور العين وهو ما يبصر به الرائي ويدرك المرئيات، كما أن البصيرة نور القلب، وهو ما يستبصر به ويتأمل، فكأنهما جوهران لطيفان خلق الله تعالى فيهما آلتين للإبصار والاستبصار، أقول: إن أصحابه من المعتزلة لا يرضون منه بهذا الكلام: وتحقيق القول في الأبصار يستدعي أبحاثاً غامضة لا تليق بهذا الموضع.
المسألة العاشرة: قرئ {غشاوة} بالكسر والنصب، وغشاوة بالضم والرفع، وغشاوة بالفتح والنصب، وغشوة بالكسر والرفع، وغشوة بالفتح والرفع والنصب، وغشاوة بالعين غير المعجمة والرفع من الغشا، والغشاوة هي الغطاء، ومنه الغاشية، ومنه غشي عليه إذا زال عقله والغشيان كناية عن الجماع.
المسألة الحادية عشرة: العذاب مثل النكال بناء ومعنى، لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، كما تقول نكل عنه، ومنه العذب، لأنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده، ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخاً، لأنه ينقخ العطش أي يكسره، وفراتاً لأنه برفته عن القلب، ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذاباً وإن لم يكن نكالاً أي عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة، والفرق بين العظيم والكبير: أن العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكأن العظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير، ويستعملان في الجثث والأحداث جميعاً، تقول: رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره، ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله تعالى.
المسألة الثانية عشرة: اتفق المسلمون على أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار، وقال بعضهم لا يحسن وفسروا قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} بأنهم يستحقون ذلك لكن كرمه يوجب عليه العفو، ولنذكر هاهنا دلائل الفريقين، أما الذين لا يجوزون التعذيب فقد تمسكوا بأمور.
أحدها: أن ذلك التعذيب ضرر خالٍ عن جهات المنفعة، فوجب أن يكون قبيحاً، أما أنه ضرر فلا شك، وأما أنه خالٍ عن جهات المنفعة، فلأن تلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى، أو إلى غيره، والأول باطل، لأنه سبحانه متعالٍ عن النفع والضرر بخلاف الواحد منا في الشاهد، فإن عبده إذا أساء إليه أدبه، لأنه يستلذ بذلك التأديب لما كان في قلبه من حب الانتقام ولأنه إذا أدبه فإنه ينزجر بعد ذلك عما يضره.
والثاني: أيضاً باطل، لأن تلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى المعذب أو إلى غيره أما إلى المعذب فهو محال، لأن الإضرار لا يكون عين الانتفاع وأما إلى غيره فمحال، لأن دفع الضرر أولى بالرعاية من إيصال النفع، فإيصال الضرر إلى شخص لغرض إيصال النفع إلى شخص آخر ترجيح للمرجوح على الراجح، وهو باطل وأيضاً فلا منفعة يريد الله تعالى إيصالها إلى أحد إلا وهو قادر على ذلك الاتصال من غير توسيط الإضرار بالغير، فيكون توسيط ذلك الإضرار عديم الفائدة. فثبت أن التعذيب ضرر خالٍ عن جميع جهات المنفعة وأنه معلوم القبح ببديهة العقل، بل قبحه أجلى في العقول من قبح الكذب الذي لا يكون ضاراً، والجهل الذي لا يكون ضاراً، بل من قبح الكذب الضار والجهل الضار، لأن ذلك الكذب الضار وسيلة إلى الضرر وقبح ما يكون وسيلة إلى الضرر، دون قبح نفس الضرر، وإذا ثبت قبحه امتنع صدوره من الله تعالى، لأنه حكيم والحكيم لا يفعل القبيح.
وثانيها: أنه تعالى كان عالماً بأن الكافر لا يؤمن على ما قال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] إذا ثبت هذا ثبت أنه متى كلف الكافر لم يظهر منه إلا العصيان، فلو كان ذلك العصيان سبباً للعقاب لكان ذلك التكليف مستعقباً لاستحقاق العقاب، إما لأنه تمام العلة، أو لأنه شطر العلة، وعلى الجملة فذلك التكليف أمر متى حصل حصل عقيبة لا محالة العقاب، وماكان مستعقباً للضرر الخالي عن النفع كان قبيحاً، فوجب أن يكون ذلك التكليف قبيحاً، والقبيح لا يفعله الحكيم، فلم يبق هاهنا إلا أحد أمرين، إما أن يقال لم يوجد هذا التكليف أو إن وجد لكنه لا يستعقب العقاب، وكيف كان فالمقصود حاصل.
وثالثها: أنه تعالى إما أن يقال خلق الخلق للإنفاع، أو للإضرار، أولا للإنفاع ولا للإضرار، فإن خلقهم للإنفاع وجب أن لا يكلفهم ما يؤدي به إلى ضد مقصوده مع علمه بكونه كذلك، ولما علم إقدامهم على العصيان لو كلفهم كان التكليف فعلاً يؤدي بهم إلى العقاب، فإذا كان قاصداً لإنفاعهم وجب أن لا يكلفهم، وحيث كلفهم دل على أن العصيان لا يكون سبباً لاستحقاق العذاب، ولا جائز أن يقال. خلقهم لا للإنفاع ولا للإضرار، لأن الترك على العدم يكفي في ذلك، ولأنه على هذا التقدير يكون عبثاً، ولا جائز أن يقال: خلقهم للإضرار، لأن مثل هذا لا يكون رحيماً كريماً، وقد تطابقت العقول والشرائع على كونه رحيماً كريماً، وعلى أنه نعم المولى ونعم النصير، وكل ذلك يدل على عدم العقاب.
ورابعها: أنه سبحانه هو الخالق للدواعي التي توجب المعاصي، فيكون هو الملجئ إليها فيقبح منه أن يعاقب عليها، إنما قلنا إنه هو الخالق لتلك الدواعي، لما بينا أن صدور الفعل عن مقدرة يتوقف على انضمام الداعية التي يخلقها الله تعالى إليها، وبينا أن ذلك يوجب الجبر، وتعذيب المجبور قبيح في العقول، وربما قرروا هذا من وجه آخر فقالوا: إذا كانت الأوامر والنواهي الشرعية قد جاءت إلى شخصين من الناس فقبلها أحدهما وخالفها الآخر فأثيب أحدهما وعوقب الآخر، فإذا قيل لم قيل هذا وخالف الآخر؟ فيقال لأن القابل أحب الثواب وحذر العقاب فأطاع، والآخر لم يحب ولم يحذر فعصى، أو أن هذا أصغى إليّ من وعظه وفهم عنه مقالته فأطاع، وهذا لم يصغ ولم يفهم فعصى، فيقال: ولم أصغى هذا وفهم ولم يصغ ذلك ولم يفهم؟ فنقول: لأن هذا لبيب حازم فطن، وذلك أخرق جاهل غبي فيقال ولم اختص هذا بالحزم والفطنة دون ذاك، ولا شك أن الفطنة والبلادة من الأحوال الغريزية. فإن الإنسان لا يختار الغباوة والخرق ولا يفعلهما في نفسه بنفسه؟ فإذا تناهت التعليلات إلى أمور خلقها الله تعالى اضطراراً علمنا أن كل هذه الأمور بقضاء الله تعالى وليس يمكنك أن تسوي بين الشخصين اللذين أطاع أحدهما وعصى الآخر في كل حال أعني في العقل والجهل، والفطانة والغباوة، والحزم والخرق، والمعلمين والباعثين والزاجرين، ولا يمكنك أن تقول إنهما لو استويا في ذلك كله لما استويا في الطاعة والمعصية، فإذن سبب الطاعة والمعصية من الأشخاص أمور وقعت بتخليق الله تعالى وقضائه، وعند هذا يقال: أين من العدل والرحمة والكرم أن يخلق العاصي على ما خلقه الله عليه من الفظاظة والجسارة، والغباوة والقساوة، والطيش والخرق، ثم يعاقبه عليه، وهلا خلقه مثل ما خلق الطائع لبيباً حازماً عارفاً عالماً، وأين من العدل أن يسخن قلبه ويقوي غضبه ويلهب دماغه ويكثر طيشه ولا يرزقه ما رزق غيره من مؤدب أديب ومعلم عالم وواعظ مبلغ، بل يقيض له أضداد هؤلاء في أفعالهم وأخلاقهم فيتعلم منهم ثم يؤاخذه بما يؤاخذ به اللبيب الحازم، والعاقل العالم، البارد الرأس، المعتدل مزاج القلب، اللطيف الروح الذي رزقه مربياً شفيقاً، ومعلماً كاملاً؟ ما هذا من العدل والرحمة والكرم والرأفة في شيء فثبت بهذه الوجوه أن القول بالعقاب على خلاف قضايا العقول.
وخامسها: أنه تعالى إنما كلفنا النفع لعوده إلينا، لأنه قال: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] فإذا عصينا فقد فوتنا على أنفسنا تلك المنافع، فهل يحسن في العقول أن يأخذ الحكيم إنساناً ويقول له إني أعذبك العذاب الشديد، لأنك فوت على نفسك بعض المنافع، فإنه يقال له إن تحصيل النفع مرجوح بالنسبة إلى دفع الضرر فهب أني فوت على نفسي أدون المطلوبين أفتفوت عليّ لأجل ذلك أعظمها وهل يحسن من السيد أن يأخذ عبده ويقول إنك قدرت على أن تكتسب ديناراً لنفسك ولتنتفع به خاصة من غير أن يكون لي فيه غرض ألبتة، فلما لم تكتسب ذلك الدينار ولم تنتفع به آخذك وأقطع أعضاءك إرباً إرباً، لا شك أن هذا نهاية السفاهة، فكيف يليق بأحكم الحاكمين ثم قالوا هب أن سلمنا هذا العقاب فمن أين القول بالدوام؟ وذلك لأن أقسى الناس قلباً وأشدهم غلظة وفظاظة وبعداً عن الخير إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه وعذبه يوماً أو شهراً أو سنة فإنه يشبع منه ويمل، فلو بقي مواظباً عليه لامه كل أحد، ويقال هب أنه بالغ هذا في أضرارك، ولكن إلى متى هذا التعذيب، فإما أن تقتله وتريحه، وإما أن تخلصه، فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذ بالانتقام فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام الذي يقال.
وسادسها: أنه سبحانه نهى عباده عن استيفاء الزيادة، فقال: {فَلاَ يُسْرِف فّى القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسرءا: 33] وقال: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] ثم إن العبد هب أنه عصى الله تعالى طول عمره فأين عمره من الأبد؟ فيكون العقاب المؤبد ظلماً.
وسابعها: أن العبد لو واظب على الكفر طول عمره، فإذا تاب ثم مات عفا الله عنه وأجاب دعاءه وقبل توبته، ألا ترى أن هذا الكريم العظيم ما بقي في الآخرة، أو عقول أولئك المعذبين ما بقيت فلم لا يتوبون عن معاصيهم؟ وإذا تابوا فلم لا يقبل الله تعالى منهم توبتهم، ولم لا يسمع نداءهم، ولم يخيب رجاءهم؟ ولم كان في الدنيا في الرحمة والكرم إلى حيث قال: {ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] وفي الآخرة صار بحيث كلما كان تضرعهم إليه أشد فإنه لا يخاطبهم إلا بقوله: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} [المؤمنون: 108] قالوا: فهذه الوجوه مما توجب القطع بعدم العقاب. ثم قال من آمن من هؤلاء بالقرآن: العذر عما ورد في القرآن من أنواع العذاب من وجوه:
أحدها: أن التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد اليقين، والدلائل العقلية تفيد اليقين، والمظنون لا يعارض المقطوع.
وإنما قلنا: إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين، لأن الدلائل اللفظية مبنية على أصول كلها ظنية والمبني على الظني ظني، وإنما قلنا إنها مبنية على أصول ظنية، لأنها مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف، ورواة هذه الأشياء لا يعلم بلوغهم إلى حد التواتر، فكانت روايتهم مظنونة، وأيضاً فهي مبنية على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار بالزيادة والنقصان وعدم التقديم والتأخير، وكل ذلك أمور ظنية، وأيضاً فهي مبنية على عدم المعارض العقلي، فإنه بتقدير وجوده لا يمكن القول بصدقهما ولا بكذبهما معاً، ولا يمكن ترجيح النقل على العقل لأن العقل أصل النقل، والطعن في العقل يوجب الطعن في العقل والنقل معاً، لكن عدم المعارض العقلي مظنون، هذا إذا لم يوجد فكيف وقد وجدنا هاهنا دلائل عقلية على خلاف هذه الظواهر، فثبت أن دلالة هذه الدلائل النقلية ظنية، وأما أن الظني لا يعارض اليقيني فلا شك فيه.
وثانيها: وهو أن التجاوز عن الوعيد مستحسن فيما بين الناس، قال الشاعر:
وإني إذا أوعدته أو وعدته *** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
بل الإصرار على تحقيق الوعيد كأنه يعد لؤما، وإذا كان كذلك وجب أن لا يصلح من الله تعالى، وهذا بناءً على حرف وهو أهل السنّة جوزوا نسخ الفعل قبل مدة الامتثال وحاصل حروفهم فيه أن الأمر يسن تارة لحكمة تنشأ من نفس المأمور به، وتارة لحكمة تنشأ من نفس الأمر، فإن السيد قد يقول لعبده إفعل الفعل الفلاني غداً وإن كان يعلم في الحال أنه سينهاه عنه غداً، ويكون مقصوده من ذلك الأمر أن يظهر العبد الانقياد لسيده في ذلك ويوطن نفسه على طاعته، فكذلك إذا علم الله من العبد أنه سيموت غداً فإنه يحسن عند أهل السنّة أن يقول: صلِ غداً إن عشت، ولا يكون المقصود من هذا الأمر تحصيل المأمور به، لأنه هاهنا محال بل المقصود حكمة تنشأ من نفس الأمر فقط، وهو حصول الانقياد والطاعة وترك التمرد.
إذا ثبت هذا فنقول: لم لا يجوز أن يقال الخبر أيضاً كذلك؟ فتارة يكون منشأ الحكمة من الأخبار هو الشيء المخبر عنه وذلك في الوعد، وتارة يكون منشأ الحكمة هو نفس الخبر لا المخبر عنه كما في الوعيد، فإن الأخبار على سبيل الوعيد مما يفيد الزجر عن المعاصي والإقدام على الطاعات، فإذا حصل هذا المقصود جاز أن لا يوجد المخبر عنه كما في الوعيد، وعند هذا قالوا إن وعد الله بالثواب حق لازم؛ وأما توعده بالعقاب فغير لازم، وإنما قصد به صلاح المكلفين مع رحمته الشاملة لهم، كالوالد يهدد ولده بالقتل والسمل والقطع والضرب، فإن قبل الولد أمره فقد انتفع وإن لم يفعل فما في قلب الوالد من الشفقة يرده عن قتله وعقوبته، فإن قيل فعلى جميع التقادير يكون ذلك كذباً والكذب قبيح قلنا لا نسلم أن كل كذب قبيح بل القبيح هو الكذب الضار، فأما الكذب النافع فلا، ثم إن سلمنا ذلك، لكن لا نسلم أنه كذب، أليس أن جميع عمومات القرآن مخصوصة ولا يسمى ذلك كذباً، أليس أن كل المتشابهات مصروفة عن ظواهرها، ولا يسمى ذلك كذباً فكذا هاهنا.
وثالثها: أليس أن آيات الوعيد في حق العصاة مشروطة بعدم التوبة وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً في صريح النص، فهي أيضاً عندنا مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً بصريح النص صريحاً، أو نقول: معناه أن العاصي يستحق هذه الأنواع من العقاب فيحمل الإخبار عن الوقوع على الأخبار عن استحقاق الوقوع فهذا جملة ما يقال في تقرير هذا المذهب.
وأما الذين أثبتوا وقوع العذاب، فقالوا إنه نقل إلينا على سبيل التواتر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوع العذاب فإنكاره يكون تكذيباً للرسول وأما الشبه التي تمسكتم بها في نفي العقاب فهي مبنية على الحسن والقبح وذلك مما لا نقول به والله أعلم.


{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)}
اعلم أن المفسرين أجمعوا على أن ذلك في وصف المنافقين قالوا: وصف الله الأصناف الثلاثة من المؤمنين والكافرين والمنافقين فبدأ بالمؤمنين المخلصين الذين صحت سرائرهم وسلمت ضمائرهم، ثم أتبعهم بالكافرين الذين من صفتهم الإقامة على الجحود والعناد، ثم وصف حال من يقول بلسانه إنه مؤمن وضميره يخالف ذلك، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أعلم أن الكلام في حقيقة النفاق لا يتخلص إلا بتقسيم نذكره فنقول: أحوال القلب أربعة، وهي الاعتقاد المطابق المستفاد عن الدليل وهو العلم؛ والاعتقاد المطابق المستفاد لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد، والاعتقاد الغير المطابق وهو الجهل، وخلو القلب عن كل ذلك. فهذه أقسام أربعة، وأما أحوال اللسان فثلاثة: الإقرار؛ والإنكار، والسكوت. فيحصل من تركيباتها اثنا عشر قسماً.
النوع الأول: ما إذا حصل العرفان القلبي فهاهنا إما أن ينضم إليه الإقرار باللسان أو الإنكار باللسان أو السكوت.
القسم الأول: ما إذا حصل العرفان بالقلب والإقرار باللسان فهذا الإقرار إن كان اختيارياً فصاحبه مؤمن حقاً بالإتفاق، وإن كان اضطرارياً وهو ما إذا عرف بقلبه ولكنه يجد من نفسه أنه لولا الخوف لما أقر، بل أنكر، فهذا يجب أن يعد منافقاً؛ لأنه بقلبه منكر مكذب، فإذا كان باللسان مقراً مصدقاً وجب أن يعد منافقاً لأنه بقلبه منكر مكذب بوجوب الإقرار.
القسم الثاني: أن يحصل العرفان القلبي والإنكار اللساني فهذا الإنكار إن كان اضطرارياً كان صاحبه مسلماً، لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106] وإن كان اختيارياً كان كافراً معانداً.
القسم الثالث: أن يحصل العرفان القلبي ويكون اللسان خالياً عن الإقرار والإنكار، فهذا السكوت إما أن يكون اضطرارياً أو اختيارياً، فإن كان اضطرارياً فذلك إذا خاف ذكره باللسان فهذا مسلم حقاً أو كما إذا عرف الله بدليله ثم لما تمم النظر مات فجأة، فهذا مؤمن قطعاً، لأنه أتى بكل ما كلف به ولم يجد زمان الإقرار والإنكار فكان معذوراً فيه، وأما إن كان اختيارياً فهو كمن عرف الله بدليله ثم إنه لم يأت بالإقرار، فهذا محل البحث، وميل الغزالي رحمه الله إلى أنه يكون مؤمناً لقوله عليه السلام: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان».
وهذا الرجل قلبه مملوء من نور الإيمان فكيف لا يخرج من النار.
النوع الثاني: أن يحصل في القلب الاعتقاد التقليدي، فإما أن يوجد معه الإقرار، أو الإنكار أو السكوت.
القسم الأول: أن يوجد معه الإقرار، ثم ذلك الإقرار إن كان اختيارياً فهذا هو المسألة المشهورة من أن المقلد هل هو مؤمن أم لا؟ وإن كان اضطرارياً فهذا يفرع على الصورة الأولى، فإن حكمنا في الصورة الأولى بالكفر، فها هنا لا كلام، وإن حكمنا هناك بالإيمان وجب أن يحكم هاهنا بالنفاق، لأن في هذه الصورة لو كان القلب عارفاً لكان هذا الشخص منافقاً، فبأن يكون منافقاً عند التقليد كان أولى.
القسم الثاني: الاعتقاد التقليدي مع الإنكار اللساني، ثم هذا الإنكار إن كان اختيارياً فلا شك في الكفر، وإن كان اضطرارياً وحكمنا بإيمان المقلد وجب أن نحكم بالإيمان في هذه الصورة.
القسم الثالث: الاعتقاد التقليدي مع السكوت اضطرارياً كان أو اختيارياً، وحكمه حكم القسم الثالث من النوع الأول إذا حكمنا بإيمان المقلد.
النوع الثالث: الإنكار القلبي فإما أن يوجد معه الإقرار اللساني، أو الإنكار اللساني، أو السكوت.
القسم الأول: أن يوجد معه الإقرار اللساني، فذلك الإقرار إن كان اضطرارياً فهو المنافق وإن كان اختيارياً فهو مثل أن يعتقد بناءً على شبهة أن العالم قديم ثم بالاختيار أقر باللسان أن العالم محدث، وهذا غير مستبعد، لأنه إذا جاز أن يعرف بالقلب ثم ينكر باللسان وهو كفر الجحود والعناد، فلم لا يجوز أن يجهل بالقلب ثم يقر باللسان؟ فهذا القسم أيضاً من النفاق.
القسم الثاني: أن يوجد الإنكار القلبي ويوجد الإنكار اللساني فهذا كافر وليس بمنافق، لأنه ما أظهر شيئاً بخلاف باطنه.
القسم الثالث: أن يوجد الإنكار القلبي مع السكوت اللساني فهذا كافر وليس بمنافق لأنه ما أظهر شيئاً.
النوع الرابع: القلب الخالي عن جميع الاعتقادات فهذا إما أن يوجد معه الإقرار أو الإنكار أو السكوت.
القسم الأول: إذا وجد الإقرار فهذا الإقرار إما أن يكون اختيارياً أو اضطرارياً، فإن كان اختيارياً، فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر، لكنه فعل ما لا يجوز حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا؟ وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر، أما إذا كان اضطرارياً لم يكفر صاحبه، لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً.
القسم الثاني: القلب الخالي مع الإنكار باللسان وحكمه على العكس من حكم القسم العاشر القسم الثالث: القلب الخالي مع اللسان الخالي، فهذا إن كان في مهلة النظر فذاك هو الواجب، وإن كان خارجاً عن مهلة النظر وجب تكفيره ولا يحكم عليه بالنفاق البتة، فهذه هي الأقسام الممكنة في هذا الباب، وقد ظهر منه أن النفاق ما هو، وأنه الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ما في ظاهره أو كان باطنه خالياً عما يشعر به ظاهره، وإذ عرفت هذا ظهر أن قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الآخر} المراد منه المنافقون والله أعلم.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن كفر الكافر الأصلي أقبح أم كفر المنافق؟ قال قوم كفر الكافر الأصلي أقبح، لأنه جاهل بالقلب كاذب باللسان، والمنافق جاهل بالقلب صادق باللسان.
وقال آخرون بل المنافق أيضاً كاذب باللسان، فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه، ولذلك قال تعالى: {قَالَتِ الأعراب ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] وقال: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1] ثم إن المنافق اختص بمزيد أمور منكرة.
أحدها: أنه قصد التلبيس والكافر الأصلي ما قصد ذلك.
وثانيها: أن الكافر عى طبع الرجال، والمنافق على طبع الخنوثة.
وثالثها: أن الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه ولم يرض إلا بالصدق، والمنافق رضي بذلك.
ورابعها: أن المنافق ضم إلى كفره الاستهزاء بخلاف الكافر الأصلي، ولأجل غلظ كفره قال تعالى: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145].
وخامسها: قال مجاهد: إنه تعالى ابتدأ بذكر المؤمنين في أربع آيات، ثم ثنى بذكر الكفار في آيتين ثم ثلث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية، وذلك يدل على أن المنافق أعظم جرماً.
وهذا بعيد، لأن كثرة الاقتصاص بخبرهم لا توجب كون جرمهم أعظم، فإن عظم فلغير ذلك، وهو ضمهم إلى الكفر وجوهاً من المعاصي كالمخادعة والاستهزاء، وطلب الغوائل إلى غير ذلك، ويمكن أن يجاب عنه بأن كثرة الاقتصاص بخبرهم تدل على أن الاهتمام بدفع شرهم أشد من الاهتمام بدفع شر الكفار، وذلك يدل على أنهم أعظم جرماً من الكفار.
المسألة الثالثة: هذه الآية دالة على أمرين: الأول: أنها تدل على أن من لا يعرف الله تعالى وأقر به فإنه لا يكون مؤمناً، لقوله: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} وقالت الكرامية: إنه يكون مؤمناً الثاني: أنها تدل على بطلان قول من زعم أن كل المكلفين عارفون بالله، ومن لم يكن به عارفاً لا يكون مكلفاً أما الأول فلأن هؤلاء المنافقين لو كانوا عارفين بالله وقد أقروا به لكان يجب أن يكون إقرارهم بذلك إيماناً، لأن من عرف الله تعالى وأقر به لابد وأن يكون مؤمناً وأما الثاني فلأن غير العارف لو كان معذوراً لما ذم الله هؤلاء على عدم العرفان، فبطل قول من قال من المتكلمين: إن من لا يعرف هذه الأشياء يكون معذوراً.
المسألة الرابعة: ذكروا في اشتقاق لفظ الإنسان وجوهاً: أحدها: يروى عن ابن عباس أنه قال: سمي إنساناً لأنه عهد إليه فنسي، وقال الشاعر:
سميت إنساناً لأنك ناسي ***
وقال أبو الفتح البستي:
يا أكثر الناس إحساناً إلى الناس *** وأكثر الناس إفضالاً على الناس
نسيت عهدك والنسيان مغتفر *** فاغفر فأول ناس أول الناس
وثانيها: سمي إنساناً لاستئناسه بمثله.
وثالثها: قالوا: الإنسان إنما سمي إنساناً لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون من قوله: {آنس مِن جَانِبِ الطور نَاراً} [القصص: 29] كما سمي الجن لاجتنانهم.
واعلم أنه لا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقاً من شيء آخر وإلا لزم التسلسل، وعلى هذا لا حاجة إلى جعل لفظ الإنسان مشتقاً من شيء آخر.
المسألة الخامسة: قال ابن عباس: أنها نزلت في منافقي أهل الكتاب، منهم عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير، وجد ابن قيس، كانوا إذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق ويقولون إنا لنجد في كتابنا نعته وصفته ولم يكونوا كذلك إذا خلا بعضهم إلى بعض.
المسألة السادسة: لفظة من لفظة صالحة للتثنية، والجمع، والواحد.
أما في الواحد فقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] وفي الجمع كقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] والسبب فيه أنه موحد اللفظ مجموع المعنى، فعند التوحيد يرجع إلى اللفظ.
وعند الجمع يرجع إلى المعنى، وحصل الأمران في هذه الآية؛ لأن قوله تعالى: {يقُولُ} لفظ الواحد و{آمنا} لفظ الجمع وبقي من مباحث الآية أسئلة.
السؤال الأول: المنافقون كانوا مؤمنين بالله وباليوم الآخر ولكنهم كانوا منكرين لنبوته عليه السلام فلم كذبهم في إدعائهم الإيمان بالله واليوم الآخر؟ والجواب: إن حملنا هذه الآية على منافقي المشركين فلا إشكال، لأن أكثرهم كانوا جاهلين بالله ومنكرين البعث والنشور وإن حملناها على منافقي أهل الكتاب وهم اليهود فإنما كذبهم الله تعالى لأن إيمان اليهود بالله ليس بإيمان، لأنهم يعتقدونه جسماً، وقالوا عزير بن الله، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان، فلما قالوا آمنا بالله كان خبثهم فيه مضاعفاً لأنهم كانوا بقلوبهم يؤمنون به على ذلك الوجه الباطل، وباللسان يوهمون المسلمين بهذا الكلام إنا آمنا لله مثل إيمانكم، فلهذا كذبهم الله تعالى فيه.
السؤال الثاني: كيف طابق قوله: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} قولهم: {آمنا بالله} والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل؟ والجواب: أن من قال فلان ناظر في المسألة الفلانية، فلو قلت إنه لم يناظر في تلك المسألة كنت قد كذبته، أما لو قلت إنه ليس من الناظرين كنت قد بالغت في تذكيبه، يعني أنه ليس من هذا الجنس، فكيف يظن به ذلك؟ فكذا هاهنا لما قالوا آمنا بالله فلو قال الله ما آمنوا كان ذلك تكذيباً لهم أما لما قال: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} كان ذلك مبالغة في تكذيبهم، ونظيره قوله: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا} هو أبلغ من قولهم: وما يخرجون منها.
السؤال الثالث: ما المراد باليوم الآخر؟
الجواب: يجوز أن يراد به الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم، الذي لا ينقطع له أمد، ويجوز أن يراد به الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة. وأهل النار النار؛ لأنه آخر الأوقات المحدودة، وما بعده فلا حد له.


{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}
اعلم أن الله تعالى من قبائح المنافقين أربعة أشياء: أحدها: ما ذكره في هذه الآية، وهو أنهم {يخادعون الله والذين ءَامَنُوا} فيجب أن يعلم أولاً: ما المخادعة، ثم ثانياً: ما المراد، بمخادعة الله؟ وثالثاً: أنهم لماذا كانوا يخادعون الله؟ ورابعاً: أنه ما المراد بقوله وما يخدعون إلا أنفسهم؟.
المسألة الأولى: اعلم أنه لا شبهة في أن الخديعة مذمومة، والمذموم يجب أن يميز من غيره لكي لا يفعل، وأصل هذه اللفظة الإخفاء، وسميت الخزانة المخدع، والأخدعان عرقان في العنق لأنهما خفيان.
وقالوا: خدع الضب خدعاً إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلاً، وطريق خيدع وخداع، إذا كان مخالفاً للمقصد بحيث لا يفطن له، ومنه المخدع.
وأما حدها فهو إظهار ما يوهم السلامة والسداد، وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير والتخلص منه، فهو بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسنة، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين؛ لأن الدين يوجب الاستقامة والعدول عن الغرور والإساءة، كما يوجب المخالصة لله تعالى في العبادة، ومن هذا الجنس وصفهم المرائي بأنه مدلس إذا أظهر خلاف مراده، ومنه أخذ التدليس في الحديث، لأن الراوي يوهم السماع ممن لم يسمع؛ وإذا أعلن ذلك لا يقال إنه مدلس.
المسألة الثانية: وهي أنهم كيف خادعوا الله تعالى؟ فلقائل أن يقول: إن مخادعة الله تعالى ممتنعة من وجهين:
الأول: أنه تعالى يعلم الضمائر والسرائر فلا يجوز أن يخادع، لأن الذي فعلوه لو أظهروا أن الباطن بخلاف الظاهر لم يكن ذلك خداعاً، فإذا كان الله تعالى لا يخفي عليه البواطن لم يصح أن يخادع.
الثاني: أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله تعالى، فثبت أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره بل لابد من التأويل وهو من وجهين:
الأول: أنه تعالى ذكر نفسه وأراد به رسولة على عادته في تفخيم وتعظيم شأنه. قال: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] وقال في عكسه {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] أضاف السهم الذي يأخذه الرسول إلى نفسه فالمنافقون لما خادعوا الرسول قيل إنهم خادعوا الله تعالى.
الثاني: أن يقال صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يخادع، وصورة صنيع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد الكفرة صورة صنيع الله معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم.
المسألة الثالثة: فهي في بيان الغرض من ذلك الخداع وفيه وجوه:
الأول: أنهم ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يجرونهم في التعظيم والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان وإن أسروا خلافه فمقصودهم من الخداع هذا.
الثاني: يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أسراره، وإفشاء المؤمنين أسرارهم فينقلونها إلى أعدائهم من الكفار.
الثالث: أنهم دفعوا عن أنفسهم أحكام الكفار مثل القتل، لقوله عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» الرابع: أنهم كانوا يطمعون في أموال الغنائم، فإن قيل: فالله تعالى كان قادراً على أن يوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم كيفية مكرهم وخداعهم، فلم لم يفعل ذلك هتكاً لسترهم؟ قلنا: إنه تعالى قادر على استئصال إبليس وذريته ولكنه تعالى أبقاهم وقواهم، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد أو لحكمة لا يطلع عليها إلا هو.
فإن قيل هل للاقتصار بخادعت على واحد وجه صحيح؟ قلنا قال صاحب الكشاف وجهه أن يقال: عنى به فعلت إلا أنه أخرج في زنة فاعلت، لأن الزنة في أصلها للمبالغة والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب، لزيادة قوة الداعي إليه، ويعضده قراءة أبي حيوة يخدعون الله ثم قال: {يخادعون} بياناً ليقول ويجوز أن يكون مستأنفاً كأنه قيل ولِمَ يدَّعون الإيمان كاذبين. وما نفعهم فيه؟ فقيل {يخادعون}.
المسألة الرابعة: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمر وما يخادعون والباقون يخدعون وحجة الأولين: مطابقة اللفظ حتى يكون مطابقاً للفظ الأول، وحجة الباقين أن المخادعة إنما تكون بين اثنين، فلا يكون الإنسان الواحد مخادعاً لنفسه، ثم ذكروا في قوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ} وجهين:
الأول: أنه تعالى يجازيهم على ذلك ويعاقبهم عليه فلا يكونون في الحقيقة خادعين إلا أنفسهم عن الحسن.
والثاني: ما ذكره أكثر المفسرين، وهو أن وبال ذلك راجع إليهم في الدنيا، لأن الله تعالى كان يدفع ضرر خداعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم، وهو كقوله: {إِنَّ المنافقين يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} [البقرة: 14، 15] {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء} [البقرة: 13] {وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً} [النمل: 50] {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15، 16] {إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] وبقي في الآية بعد ذلك أبحاث.
أحدها: قرئ وما يخادعون من أخدع ويخدعون بفتح الياء بمعنى يختدعون ويخدعون ويخادعون على لفظ ما لم يسم فاعله.
وثانيها: النفس ذات الشيء وحقيقته، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] والمراد بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لا يعدوهم إلى غيرهم.
وثالثها: أن الشعور علم الشيء إذا حصل بالحس، ومشاعر الإنسان حواسه، والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، لكنهم لتماديهم في الغفلة كالذي لا يحس.
أما قوله تعالى: {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} فاعلم أن المرض صفة توجب وقوع الضرر في الأفعال الصادرة عن موضع تلك الصفة، ولما كان الأثر الخاص بالقلب إنما هو معرفة الله تعالى وطاعته وعبوديته، فإذا وقع في القلب من الصفات ما صار مانعاً من هذه الآثار كانت تلك الصفات أمراضاً للقلب.
فإن قيل: الزيادة من جنس المزيد عليه، فلو كان المراد من المرض هاهنا الكفر والجهل لكان قوله: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} محمولاً على الكفر والجهل، فيلزم أن يكون الله تعالى فاعلاً للكفر والجهل.
قالت المعتزلة: لا يجوز أن يكون مراد الله تعالى منه فعل الكفر والجهل لوجوه:
أحدها: أن الكفار كانوا في غاية الحرص على الطعن في القرآن، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: إذا فعل الله الكفر فينا، فكيف تأمرنا بالإيمان؟
وثانيها: أنه تعالى لو كان فاعلاً للكفر لجاز منه إظهار المعجزة على يد الكذاب، فكان لا يبقى كون القرآن حجة فكيف نتشاغل بمعانيه وتفسيره.
وثالثها: أنه تعالى ذكر هذه الآيات في معرض الذم لهم على كفرهم فكيف يذمهم على شيء خلقه فيهم.
ورابعها: قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فإن كان الله تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم، فأي ذنب لهم حتى يعذبهم؟.
وخامسها: أنه تعالى أضافه إليهم بقوله: {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} وعلى هذا وصفهم تعالى بأنهم مفسدون في الأرض، وأنهم هم السفهاء، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، إذا ثبت هذا فنقول: لابد من التأويل وهو من وجوه:
الأول: يحمل المرض على الغم، لأنه يقال مرض قلبي من أمر كذا، والمعنى أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا ثبات أمر النبي صلى الله عليه وسلم واستعلاء شأنه يوماً فيوماً. وذلك كان يؤثر في زوال رياستهم، كما روي أنه عليه السلام مر بعبد الله بن أبي بن سلول على حمار، فقال له نح حمارك يا محمد فقد آذتني ريحه، فقال له بعض الأنصار اعذره يا رسول الله، فقد كنا عزمنا على أن نتوجه الرياسة قبل أن تقدم علينا: فهؤلاء لما اشتد عليهم الغم وصف الله تعالى ذلك فقال: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} أي زادهم الله غماً على غمهم بما يزيد في إعلاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم شأنه.
الثاني: أن مرضهم وكفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكاليف، فهو كقوله تعالى في سورة التوبة: {فَزَادَهُمُ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] والسورة لم تفعل ذلك، ولكنهم لما ازدادوا رجساً عند نزولها لما كفروا بها قيل ذلك، وكقوله تعالى حكاية عن نوح {إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً} [نوح: 5، 6] والدعاء لم يفعل شيئاً من هذا، ولكنهم ازدادوا فراراً عنده، وقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي وَلاَ تَفْتِنّى} [التوبة: 49] والنبي عليه السلام إن لم يأذن له لم يفتنه، ولكنه كان يفتتن عند خروجه فنسبت الفتنة إليه {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْراً} [المادة: 64] وقال: {فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} [فاطر: 42] وقولك لمن وعظته فلم يتعظ وتمادى في فساده: ما زادتك موعظتي إلا شراً، ومازادتك إلا فساداً فكذا هؤلاء المنافقون لما كانوا كافرين ثم دعاهم الله إلى شرائع دينه فكفروا بتلك الشرائع وازدادوا بسبب ذلك كفراً لا جرم أضيفت زيادة كفرهم إلى الله.
الثالث: المراد من قوله: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} المنع من زيادة الألطاف، فيكون بسبب ذلك المنع خاذلاً لهم وهو كقوله: {قاتلهم الله أنى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] الرابع: أن العرب تصف فتور الطرف بالمرض، فيقولون: جارية مريضة الطرف.
قال جرير:
إن العيون التي في طرفها مرض *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فكذا المرض هاهنا إنما هو الفتور في النية، وذلك لأنهم في أول الأمر كانت قلوبهم قوية على المحاربة والمنازعة وإظهار الخصومة، ثم انكسرت شوكتهم فأخذوا في النفاق بسبب ذلك الخوف والإنكسار، فقال تعالى: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} أي زادهم ذلك الانكسار والجبن والضعف، ولقد حقق الله تعالى ذلك بقوله: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين} [الحشر: 2] الخامس: أن يحمل المرض على ألم القلب، وذلك أن الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه، فإذا دام به ذلك فربما صار ذلك سبباً لغير مزاج القلب وتألمه، وحمل اللفظ على هذا الوجه حمل له على حقيقته، فكان أولى من سائر الوجوه.
أما قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال صاحب الكشاف: ألم فهو أليم، كوجع فهو وجيع، ووصف العذاب به فهو نحو قوله: تحية بينهم ضرب وجيع.
وهذا على طريقة قولهم: جد جده، والألم في الحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد، أما قوله: {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} ففيه أبحاث.
أحدها: أن الكذب هو الخبر عن شيء على خلاف ما هو به والجاحظ لا يسميه كذباً إلا إذا علم المخبر كون المخبر عنه مخالفاً للخبر، وهكذا الآية حجة عليه.
وثانيها: أن قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} صريح في أن كذبهم علة للعذاب الأليم، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراماً فأما ما روي أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات، فالمراد التعريض، ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به.
وثالثها: في هذه الآية قراءتان:
إحداهما: {يَكْذِبُونَ} والمراد بكذبهم قوله: {بالله وباليوم الآخر}.
والثانية: يكذبون من كذبه الذي هو نقيض صدقه، ومن كذب الذي هو مبالغة في كذب، كما بولغ في صدق فقيل صدق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8